الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
لما استكمل الفتح واستكمل للملة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم بين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر وكان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والإقتداء بهديه وآدابه المهاجرين والأنصار من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم. وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلا قليلاً منهم وكان لهم في الفتوحات قدم. فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم وما كانوا فيه من الذهول والدهش لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال بعض الشيء وذل العدو واستفحل الملك. كانت عروق الجاهلية تنبض ووجدوا الرياسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم فأنفت نفوسهم منه ووافق أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات والإستبطاء عليهم في الطاعات والتجني بسؤال الإستبدال منهم والعزل ويفيضون في النكير على عثمان. وفشت المقالة في ذلك من اتباعهم وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة فارتابوا لها وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه. وبعث إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأسامة بن زيد إلى البصرة وعبد الله بن عمر إلى الشام وعمار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه. فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم إلا عماراً فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه منهم عبد الله بن سبأ ويعرف بابن السواد كان يهودياً وهاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه وأخرج من البصرة فلحق بالكوفة ثم بالشام وأخرجوه فلحق بمصر وكان يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السر لآهل البيت ويقول: إن محمداً يرجع كما يرجع عيسى. وعنه أخذ ذلك أهل الرجعة وإن علياً رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم يجز وصيته وإن عثمان أخذ الأمر بغير حق ويحرض الناس على القيام في ذلك والطعن على الأمراء. فاستمال الناس بذلك في الأمصار وكاتب به بعضهم بعضاً. وكان معه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر فثبطوا عماراً عن المسير إلى المدينة. وكان مما انكروه على عثمان إخراج أبي ذر من الشام ومن المدينة إلى الربذة. وكان الذي دعا إلى ذلك شدة الورع من أبي ذر وحمله الناس على شدائد الأمور والزهد في الدنيا وإنه لا ينبغي لأحد أن يكون عنده أكثر من قوت يومه ويأخذ بالظاهر في ذم الإدخار بكنز الذهب والفضة. وكان ابن سبأ يأتيه فيغريه بمعاوية ويعيب قوله: المال مال الله. ويوهم أن في ذلك احتجانه للمال وصرفه على المسلمين حتى عتب أبو ذر في ذلك معاوية فاستعتب له وقال: سأقول ما للمسلمين. وأتى ابن سبأ إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت بمثل ذلك ولما كثر ذلك على معاوية شكاه إلى عثمان فاستقدمه وقال له: ما لأهل الشام يشكون منك فأخبره فقال: يا أبا ذر لا يمكن حمل الناس على الزهد وإنما علي أن أقضي بينهم بحكم الله وأرغبهم في الإقتصاد فقال أبو ذر: لا نرضى من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا للجيران والإخوان ويصلوا القرابة. فقال له كعب الأحبار: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه فضربه أبو ذر فشجه وقال: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا فاستوهب عثمان من كعب شجته فوهبه. ثم استأذن أبو ذر عثمان في الخروج من المدينة وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً فأذن له. ونزل الربذة وبنى بها مسجداً وأقطعه عثمان صرمةً من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه رزقاً وكان يتعاهد المدينة. فعد أولئك الرهط خروج أبي ذر فيما ينقمونه على عثمان مع ما كانوا يعدون عليه من إعطاء مروان خمس مغانم إفريقية والصحيح أنه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه. ومما عدوا عليه أيضاً زيادة النداء الثالث على الزوراء يوم الجمعة وإتمامه الصلاة في منى وعرفة مع أن الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده كان على القصر. ولما سأله عبد الرحمن واحتج عليه بذلك قال له: بلغني أن بعض حاج اليمن والجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي وقد اتخذت بمكة أهلاً ولي بالطائف مال. فلم يقبل ذلك عبد الرحمن فقال: زوجتك بمكة إنما تسكن بسكناك ولو خرجت خرجت ومالك بالطائف على أكثر من مسافة القصر. وأما حاج اليمن فقد شهدوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده وقد كان الإسلام ضرب بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. فمن الصحابة من تبعه على ذلك ومنهم من خالفه. ومما عدوا عليه سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يده في بئر أريس على ميلين من المدينة فلم يوجد.
فمنها قصة الوليد بن عقبة وقد تقدم ذكرها وإنه عزله على شرب الخمر واستبدله بسعيد بن العاص منه. وكان وجوه الناس وأهل القادسية يسمرون عنده مثل مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس من النخع وثابت بن قيس الهمداني وجندب بن زهير العامري وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعي وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضابىء وطليحة بن خويلد. وكانوا يفيضون في أيام الوقائع وفي أنساب الناس وأخبارهم وربما ينتهون إلى الملاحاة ويخرجون منها إلى المشاتمة والمقاتلة ويعذلهم في ذلك حجاب سعيد بن العاص فيهزمونهم ويضربونهم. وقد قيل: إن سعيداً قال يوماً إنما هذا السواد بستان قريش فقال له الأشتر: السواد الذي أفاء الله علينا بأسيافنا تزعم أنه بستان لك ولقومك وخاض القوم في ذلك فأغلظ لهم عبد الرحمن الأزدي صاحب شرطته فوثبوا عليه وضربوه حتى غشي عليه. فمنع سعيد بعدها السمر عنده فاجتمعوا في مجالسهم يثلبون سعيداً وعثمان والسفهاء يغشونهم. فكتب سعيد وأهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب أن يلحقوهم بمعاوية وكتب إلى معاوية أن نفراً خلقوا الفتنة فقم عليهم وانههم وإن أنست منهم رشداً فأقبل منهم وإن أعيوك فأرددهم علي. فأنزلهم معاوية وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق وأقاموا عنده يحضرون مائدته ثم قال لهم يوماً: أنتم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفأ وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً ولو لم تكن قريش كنتم أذلة. إذ ائمتكم لكم جنة فلا تفترقوا على جنتكم وإن ائمتكم يصبرون لكم على الجور ويحملون عنكم المؤنة والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونوا شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم. فقال له صعصعة منهم: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر الناس ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا وإما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: الآن عرفتكم وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلاً أعظم عليك أمر الإسلام. وتذكرني في الجاهلية أخزى الله قوماً عظموا أمركم افقهوا عني ولا أظنكم تفقهون. ثم ذكر شأن قريش وإن عزها إنما كان بالله في الجاهلية والإسلام ولم يكن بكثرة ولا شدة وكانوا على أكرم أحساب وأكمل مروءة وبوأهم الله حرمه فآمنوا فيه مما أصاب العرب والعجم والأسود والأحمر في بلادهم. ثم ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله ارتضى له أصحاباً كان خيارهم قريشاً. فبنى الملك عليهم وجعل الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا بهم. ثم قرعهم ووبخهم وهددهم ثم أحضرهم بعد أيام وقال: إذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحداً ولا يضره وإن أردتم النجاة فالزموا الجماعة ولا تبطرنكم النعمة وسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم. وكتب إلى عثمان إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أبطرهم العدل إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة والله مبتليهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين يأتون الأمر إلا مع غيرهم فإنه سعيداً ومن عنده عنهم. فخرجوا من عنده قاصدين الجزيرة ومروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص فأحضرهم وقال: يا ألة الشيطان لا مرحباً بكم ولا أهلاً قد رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعد في نشاط. خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم. ثم مضى في توبيخهم على ما فعلوه وما قالوه لسعيد ومعاوية. فهابوا سطوته وطفقوا يقولون نتوب إلى الله أقلنا أقالك الله. حتى قال: تاب الله عليكم وسرح الأشتر إلى عثمان تائباً. فقال له عثمان: أحلك حيث تشاء. فقال: مع عبد الرحمن بن خالد. قال ذاك إليك! فرجع إليه وقيل: إنهم عادوا إلى معاوية من القابلة ودار بينهم وبينه القول وأغلظوا له وأغلظ عليهم وكتب إلى عثمان فأمر أن يردهم إلى سعيد فردهم فأطلقوا ألسنتهم وضج سعيد منهم وكتبوا إلى عثمان فكتب إليه أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد فدار بينهم وبينه ما قدمناه. وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن وكان بدؤه يخما يقال شأن عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء هاجر إلى الإسلام من اليهودية ونزل على حكيم بن جبلة العبدي وكان يتشيع لأهل البيت ففشت مقالته بالطعن وبلغ ذلك حكيم بن جبلة فأخرجه وأتى الكوفة فأخرج أيضاً واستقر بمصر. وأقام يكاتب أصحابه بالبصرة ويكاتبونه والمقالات تفشو بالطعن والنكير على الأمراء. وكان حمران بن أبان أيضاً يحقد لعثمان أنه ضربه على زواجه امرأة في العدة وسيره إلى البصرة فلزم ابن عامر. وكان بالبصرة عامر بن عبد القيس وكان زاهداً متقشفاً فأغرى به حمران صاحبه ابن عامر فلم يقبل سعايته. ثم أذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس إنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة فألحقه عثمان بمعاوية وأقام عنده حتى تبينت براءته وعرف فضله وحقه وقال: إرجع إلى صاحبك! فقال لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا! وأقام بالشام كثير العبادة والإنفراد بالسواحل إلى أن هلك. ولما فشت المقالات بالطعن والإرجاف على الأمراء اعتزم سعيد بن العاص على الوفادة على عثمان سنة أربع وثلاثين وكان قبلها قد ولى على الأعمال أمراء من قبله فولى الأشعث بن قيس على أذربيجان وسعيد بن قيس على الري والنسير العجلي على همدان والسائب بن الأقرع على أصبهان ومالك بن حبيب على ماه وحكيم سلامة على الموصل وجرير بن عبد لله على قرقيسيا وسلمان بن ربيعة على الباب. وجعل على حلوان عتيبة بن النهاس وعلى الحرب القعقاع بن عمرو. فخرجوا لأعمالهم وخرج هو وافداً على عثمان واستخلف عمرو بن حريث وخلت الكوفة من الرؤساء. وأظهر الطاعنون أمرهم وخرج بهم يزيد بن قيس يريد خلع عثمان فبادره القعقاع بن عمرو فقال له: إنما تستعفي من سعيد. وكتب يزيد إلى الرهط الذين عند عبد الرحمن بن خالد بحمص في القدوم فساروا إليه وسبقهم الأشتر ووقف على باب المسجد يوم الجمعة يقول: جئتكم من عند عثمان وتركت سعيداً يريده على نقصان نسائكم على مئة درهم ورد أولى البلاء منكم إلى ألفين وبزعم أن فيئكم بستان قريش. ثم استخلف الناس ونادى يزيد في الناس: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل. فخرجوا وذوو الرأي يعذلونهم فلا يسمعون. وأقام أشراف الناس وعقلاؤهم مع عمرو بن حريث ونزل يزيد وأصحابه الجرعة قريباً من القادسية لاعتراض سعيد ورده. فلما وصل قالوا: ارجع فلا حاجة لنا بك. قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا واحداً إلي أو إلى عثمان. وقال مولىً له: ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر ورجع سعيد إلى عثمان فأخبره بخبر القوم وإنهم يختارون أبا موسى الأشعري فولاه الكوفة وكتب إليهم: أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد ووالله لأقرضنكم عرضي ولأبذلنكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي. وخطب أبو موسى الناس وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان فرضوا ورجع الأمراء من قرب الكوفة واستمر أبو موسى على عمله. وقيل إن أهل الكوفة أجمع رأيهم أن يبعثوا إلى عثمان ويعذلوه فيما نقم عليه فأجمع رأيهم على عامر بن عبد القيس الزاهد وهو عامر بن عبد الله من بني تميم ثم من بني العنيس فأتاه. وقالوا له: إن ناسأ اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك ركبت أموراً عظاماً فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: ألا تسمعون إلى هذا الذي يزعم الناس أنه قارىء ثم يجيء يكلمني في المحقرات ووالله لا يدري أين الله فقال عامر: بل والله إني لأدري إن الله لبالمرصاد. فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر وعمرو بن العاص وكانوا بطانته دون الناس فجمعهم وشاورهم وقال: إنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما رأيتم. فطلبوا أن أعزل عمالي وأرجع إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم. فقال ابن عامر: أرى أن تشغلهم بالجهاد وقال سعيد: متى تهلك قادتهم تفرقوا. وقال معاوية: اجعل كفالتهم إلى أمرائهم وأنا أكفيك الشام. وقال عبد الله: استصلحهم بالمال. فردهم عثمان إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ليكون لهم فيها شغل ورد سعيداً إلى الكوفة فلقيه الناس بالجزعة وردوه كما ذكرناه وولى أبا موسى. وأمر عثمان حذيفة بغزو الباب فسار نحوه. ولما كثر هذا الطعن في الأمصار وتواتر بالمدينة وكثر الكلام في عثمان والطعن عليه وكان له منهم شيعة يذبون عنه: مثل زيد بن ثابت وأبي أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فلم يغنوا عنه. واجتمع الناس إلى علي بن أبي طالب وكلموه وعددوا عليه ما نقموه. فدخل على عثمان وذكر له شأن الناس وما نقموا عليه وذكره بأفعال عمر وشدته ولينه هو لعماله وعرض عليه ما يخاف من عواقب ذلك في الدنيا والآخرة. فقال له: إن المغيرة بن شعبة وليناه وعمر ولاه ومعاوية كذلك. وابن عامر تعرفون رحمه وقرابته. فقال له علي: إن عمر كان يطأ على صماخ من ولاه وأنت ترفق بهم وكان أخوف لعمر من غلامه يرفأ. ومعاوية يستبد عليك ويقول هذا أمر عثمان فلا تغير عليه. ثم تكالما طويلاً وافترقا وخرج عثمان على أثر ذلك وخطب وعرض بما هو فيه من الناس وطعنهم وما يريدون منه وإنهم تجرأوا عليه لرفقه بما لم يتجرأوا بمثله على ابن الخطاب ووافقهم برجوعه في شأنه إلى ما يقدمهم.
ولما كثرت الإشاعة في الأمصار بالطعن على عثمان وعماله وكتب بعضهم إلى بعض في ذلك وتوالت الأخبار بذلك على أهل المدينة جاءوا إلى عثمان وأخبروه فلم يجدوا عنده علماً منه. وقال: أشيروا علي وأنتم شهود المؤمنين. قالوا: تبعث من تثق به إلى الأنصار يأتوك بالأخبار. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأسامة بن زيد إلى البصرة وعبد لله بن عمر إلى الشام وغيرهم إلى سواها. فرجعوا وقالوا: ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره علماء المسلمين ولا عوامهم وتأخر عمار بن ياسر بمصر واستماله ابن السوداء وأصحابه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر. وكتب عثمان إلى أهل الأمصار إني قد رفع إلي أهل المدينة أن عمالي وقع منهم أضرار بالناس وقد أخذتهم بأن يوافوني في كل موسم فمن كان له حق فليحضر يأخذ حقه مني أو من عمالي أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين. فبكى الناس عند قراءة كتابه عليهم ودعوا له. وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه في الموسم: عبد الله بن عامر وابن أبي سرح ومعاوية وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمراً وقال: ويحكم ما هذه الشكاية والإذاعة وإني لأخشى والله أن يكونوا صادقين! فقالوا له: ألم يخبرك رسلك بأن أحداً لم يشافههم بشيء وإنما هذه إشاعة لا يحل الأخذ بها واختلفوا في وجه الرأي في ذلك. فقال عثمان: إن الأمر كائن وبابه سيفتح ولا أحب أن تكون لأحد علي حجة في فتحه. وقد علم الله أني لم آل الناس خيراً فسكنوا الناس وبينوا لهم حقوقهم. ثم قدم المدينة فدعا علياً وطلحة والزبير ومعاوية حاضر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أنتم ولاة هذا الأمر واخترتم صاحبكم يعني عثمان وقد كبر وأشرف وفشت مقالة خفتها عليكم فما عنيتم به من شيء فأنالكم به ولا تطمعوا الناس في أمركم. فانتهره علي ثم ذهب عثمان يتكلم وقال: اللذان كانا قبلي منعا قرابتهما احتساباً وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وإن قرابتي أهل عيلة وقلة معاش فأعطيتهم فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه. فقالوا: أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفأ ومروان خمسة عشر ألفاً. قال: آخذ ذلك منهما. فانصرفوا راضين. وقال له معاوية: اخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه. قال: لا أبتغي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلاً قال: فابعث إليك جنداً يقيمون معك. قال: لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال معاوية: لتغتالن ولتعيرن قال: حسبي الله ونعم الوكيل. ثم سار معاوية ومر على علي وطلحة والزبير فوصاهم بعثمان وودعهم ومضى. وكان المنحرفون عن عثمان بالأمصار قد تواعدوا عند مسير الأمراء إلى عثمان أن يثبوا عليه في مغيبهم. فرجع الأمراء ولم يتهيأ لهم ذلك. وجاءتهم كتب من المدينة ممن صار إلى مذهبهم في الإنحراف عن عثمان إن اقدموا علينا فإن الجهاد عندنا فتكاتبوا من أمصارهم في القدوم إلى المدينة فخرج المصريون وفيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة وقيل في ألف وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسوادن بن حمران السكوني وميسرة أو قيترة بن فلان السكوني وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي. وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري. وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبدي وزريح بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحرش وعليهم حرقوص بن زهير السعدي وكلهم في مثل عدد أهل مصر. وخرجوا جميعاً في شوال مظهرين للحج ولما كانوا من المدينة على ثلاثة مراحل تقدم ناس من أهل البصرة وكان هواهم في طلحة فنزلوا ذا خشب وتقدم ناس من أهل الكوفة: وكان هواهم في الزبير فنزلوا الأعوص ونزل معهم ناس من أهل مصر وكان هواهم في علي وتركوا عامتهم بذي المروة. وقال أبو زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم من أهل الكوفة لا تعجلوا حتى ندخل المدينة فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا فوالله إن كان حقاً لا يقوم لنا أمر. ثم دخلوا المدينة ولقوا علياً وطلحة والزبير وأمهات المؤمنين وأخبروهم أنهم إنما أتوا للحج وأن يستعفوا من بعض العمال واستأذنوا في الدخول فمنعوهم ورجعوا إلى أصحابهم. وتشاوروا في أن يذهب من أهل الكوفة وكل مصر فريق إلى أصحابهم كياداً وطلباً في الفرقة. فأتى المصريون علياً وهو في عسكره عند أحجار الزيت وقد بعث ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع عليه فعرضوا عليه أمرهم فصاح بهم وطردهم وقال: إن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم ذلك الصالحون. وأتى البصريون طلحة والكوفيون الزبير فقالا مثل ذلك فانصرفوا وافترقوا عن هذه الأماكن إلى عسكرهم على بعد. فتفرق أهل المدينة فلم يشعروا إلا والتكبير في نواحيها وقد هجموا وأحاطوا بعثمان ونادوا بأمان من كف يده. وصلى عثمان بالناس أياماً ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه. وغدا عليهم علي فقال: ما ردكم بعد ذهابكم قالوا: أخذنا كتاباً مع يزيد بقتلنا. وقال البصريون لطلحة والكوفيون للزبير مثل مقالة أهل مصر وإنهم جاءوا لينصروهم. فقال لهم علي: كيف علمتم بما لقي أهل مصر وكلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم علينا جميعاً هذا أمر أبرم بليل: فقالوا: اجعلوه كيف شئتم لا حاجة لنا بهذا الرجل ليعتزلنا وهم يصلون خلفه ومنعوا الناس من الإجتماع معه. وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستحثهم فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري وبعث عبد الله بن أبي سرح معاوية بن جريح وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو وتسابقوا إلى المدينة على الصعب والذلول. وقام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المدينة فمن الصحابة عقبة بن عامر وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله ابن حكيم. وقام بالبصرة في ذلك عمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر ومن التابعين كعب بن سوار وهرم بن حبان. وقام بالشام وبمصر جماعة أخرى من الصحابة والتابعين. ثم خطب عثمان في الجمعة القابلة وقال: يا هؤلاء! الله الله! فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد فامحوا الخطأ بالصواب. فقال محمد بن مسلمة أنا أشهد بذلك فأقعده حكيم ابن جبلة. وقام زيد بن ثابت فأقعده آخر وحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد وأصيب عثمان بالحصباء فصرخ وقاتل دونه سعد بن أبي وقاص والحسين وزيد بن ثابت وأبو هريرة. ودخل عثمان بيته وعزم عليهم في الإنصراف فانصرفوا. ودخل علي وطلحة والزبير على عثمان يعودونه وعنده نفر من بني أمية فيهم مروان فقالوا لعلي: أهلكتنا وصنعت هذا الصنع والله لئن بلغت الذي تريد لتحزن عليك الدنيا فقام مغضباً وعادوا إلى منازلهم. وصلى عثمان بالناس وهو محصور ثلاثين يوماً. ثم منعوه الصلاة وصلى بالناس أمير المصريين الغافقي بن حرب العكي. وتفرق أهل المدينة في بيوتهم وحيطانهم ملازمين للسلاح وبقي الحصار أربعين يوماً. وقيل بل أمر عثمان أبا أيوب الأنصاري فصلى أياماً. ثم صلى علي بعده بالناس وقيل أمر علياً سهل بن حنيف فصلى عشر ذي الحجة ثم صلى العيد والصلوات حتى قتل عثمان. وقد قيل في حصار عثمان: إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن حذيفة كانا بمصر يحرضان على عثمان. فلما خرج المصريون في رجب مظهرين للحج ومضمرين قتل عثمان أو خلعه وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي كان فيمن خرج مع المصريين محمد بن أبي بكر. وبعث عبد الله بن سعيد في آثارهم وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر. فلما كان ابن أبي سرح بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه وأن محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر فرجع سريعاً إليهما فمنع منهما فأتى فلسطين وأقام بها حتى قتل عثمان. وأما المصريون فلما نزلوا ذا خشب جاء عثمان إلى بيت علي ومت إليه بالقرابة في أن يركب إليهم ويردهم لئلا تظهر الجرأة منهم فقال له علي: قد كلمتك في ذلك فأطعت أصحابك وعصيتني يعني مروان ومعاوية وابن عامر وابن أبي سرح وسعيد فعلى أي شيء أردهم فقال على أن أصير إلى ما تراه وتشيره وأن أعصي أصحابي وأطيعك. فركب علي في ثلاثين من المهاجرين والأنصار فيهم سعد بن زيد وأبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتاب ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسان وكعب بن مالك ومن العرب دينار بن مكرز. فأتوا المصريين وتولى الكلام معهم علي ومحمد بن مسلمة. فرجعوا إلى مصر وقال ابن عديس لمحمد: أتوصينا بحاجة قال تتقي الله وترد من قبلك عن أمانه فقد وعدنا أن يرجع وينزع. ورجع القوم إلى المدينة ودخل علي على عثمان وأخبره برجوع المصريين. ثم جاءه مروان من الغد فقال له: أخبر الناس بأن أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عنك كان باطلاً قبل أن تجيء الناس من الأمصار ويأتيك ما لا نطيقه ففعل. فلما خطب ناداه الناس كل ناحية: إتق الله يا عثمان وتب إلى الله وكان أولهم عمرو بن العاص. فرفع يده وقال لهم: إني تائب. وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين ثم جاء الخبر بحصاره وقتله. وقيل: إن علياً لما رجع عن المصريين أشار على عثمان أن يسمع الناس ما اعتزم عليه من النزوع قبل أن يجيء غيرهم ففعل وخطب بذلك وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال: أنا أول من أتعظ استغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فليأت أشرافكم يروني رأيهم فوالله إن ردني الحق عبداً لأستن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد وما عن الله مذهب إلا إليه. فوالله لأعطينكم الرضى ولا أحتجب عنكم. ثم بكى وبكى الناس ودخل منزله. فجاءه نفر من بني أمية يعذلونه في ذلك فوبختهم نائلة بنت الفرافصة فلما يرجعوا إليها وعابوه فيما فعل واستذلوه في إقراره بالخطيئة والتوبة عند الخوف واجتمع الناس في الباب وقد ركب بعضهم بعضأ. فقال لمروان كلمهم! فأغلظ لهم في القول وقال: جئتم لنزع ملكنا من أيدينا. والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنا وبلغ الخبر علياً فنكر ذلك وقال لعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث: أسمعت خطبته بالأمس ومقالة مروان للناس اليوم. يا لله ويا للناس! إن قعدت في بيتي قال تركتني وقرابتي وحقي وإن تكلمت فجاء ما يزيد يلعب به مروان ويسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة الرسول. وقام مغضبأ إلى عثمان واستقبح مقالة مروان وأنبه عليها وقال: ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك فقد أذهبت شرفك وغلبت على رأيك. ثم دخلت عليه امرأته نائلة وقد سمعت قول علي فعذلته في طاعة مروان وأشارت عليه باستصلاح علي فبعث إليه فلم يأته. فأتاه عثمان إلى منزله ليلأ يستلينه ويعده الثبات على رأيه معه فقال: بعد أن أقام مروان على بابك يشتم الناس ويؤذيهم فخرج عثمان وهو يقول خذلتني وجرأت علي الناس! فقال علي: والله إني أكثر الناس ذباً عنك ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضاً جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي. ثم منع عثمان الماء فغضب علي غضباً شديداً حتى دخلت الروايا على عثمان وقيل إن علياً كان عند حصار عثمان بخيبر فقدم والناس يجتمعون عند طلحة فجاءه عثمان وقال يا علي! إن لي حق الإخاء والقرابة والصهر ولو كان أمر الجاهلية فقط لكان عاراً على بني عبد مناف أن تنزع تيم أمرهم فجاء علي إلى طلحة وقال ما هذا فقال طلحة: أبعد ما مس الحزام الطبييين يا أبا حسن! فانصرف علي إلى بيت المال وأعطى الناس فبقي طلحة وحده. وسر بذلك عثمان وجاء إليه طلحة فقال له: والله ما جئت تائباً ولكن مغلوباً فالله حسيبك يا طلحة. وقيل إن المصريين لما رجعوا خرج إليهم محمد بن مسلمة فأعطوه صحيفة قالوا وجدناها عند غلام عثمان بالبويب وهو على بعير من إبل الصدقة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البياع وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم. وقيل وجدت الصحيفة بيد أبي الأعور السلمي. فعاد المصريون وعاد معهم الكوفيون والبصريون وقالوا لمحمد بن مسلمة حين سألهم: قد كلمنا علياً وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فوعدونا أن يكلموه فليحضر علي معنا عند عثمان. ثم دخل علي ومحمد على عثمان وأخبروه بقول أهل مصر فحلف ما كتب ولا علم. فقال محمد: صدق! هذا من عمل مروان. ودخل المصريون فشكا ابن عديس بابن أبي سرح وما أحدثه بمصر وأنه ينسب ذلك إلى كتاب عثمان وإنا جئنا من مصر لقتلك فردنا علي ومحمد وضمنا لنا النزوع عن هذا كله فرجعنا ولقينا هذا الكتاب وفيه أمرك لابن أبي سرح بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس وهو بيد غلامك وعليه خاتمك. فحلف عثمان ما كتب ولا أمر ولا علم. قالوا فكيف يجترىء عليك بمثل هذا فقد استحقيت الخلع على التقديرين ولا يحل أن يولى الأمور من ينتهي إلى هذا الضعف فاخلع نفسك. فقال: لا أنزع ما ألبسني الله ولكن أتوب وأرجع. قال: رأيناك تتوب وتعود فلا بد من خلعك أو قتلك وقتال أصحابك دون ذلك إلى أن يخلص إليك أو تموت. فقال: لا ينالكم أحد بأخرى ولو أردت ذلك لاستجشت بأهل الأمصار. ثم كثر اللغط وأخرجوا ومضى علي إلى منزله وحصر المصريون عثمان وكتب إلى معاوية وابن عامر يستحثهم. وقام يزيد بن أسد القسري فاستنفر أهل الشام وسار إلى عثمان وبلغهم قتله بوادي القرى فرجعوا. وقيل سار من الشام حبيب بن مسلمة ومن البصرة مجاشع بن مسعود فبلغهم قتله بالربذة فرجعوا. وكان بطانة عثمان أشاروا عليه أن يبعث إلى علي في كفهم عنه على الوفاء لهم فبعث إليه في ذلك فأجاب بعد توقف. ثم بعث إليهم فقالوا: لا بد أن تتوثق منه وجاءه فأعلمه وتوثق منه على أجل ثلاثة أيام. وكتب بينهم كتابأ على رد المظالم وعزل من كرهوه من العمال. ثم مضى الأجل وهو مستعد ولم يغير شيئاً فجاءه المصريون من ذي خشب بستنجزون عهدهم فأبى فحصروه. وأرسل إلى علي وطلحة والزبير وأشرف عليهم فحياهم ودعا لهم ثم قال: أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم أتقولون إنه لم يستجب لكم أو تقولون إن الله لم يبال بمن ولى هذا الدين أم تقولون إن الأمة ولو مكابرة وعن غير مشورة فوكلهم إلى أمرهم. أو لم يعلم عاقبة أمري! ثم أنشدكم الله هل تعلمون لي من السوابق ما يجب حقه! فمهلاً فلا يحل إلا قتل ثلاثة: زانٍ بعد إحصان وكافر بعد إيمان وقاتل بغير حق. ثم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف. فقالوا له: أما ذكرت من الاستخارة بعد عمر فكل ما صنع الله تعالى فيه الخيرة ولكن الله ابتلى بك عباده. وأما حقك وسابقتك فصحيح لكن أحدثت ما علمت ولا تترك إقامة الحق مخافة الفتنة عاماً قابلاً. وأما حصر القتل في الثلاثة ففي كتاب الله: قتل من سعى في الأرض فساداً ومن قاتل على البغي وعلى منع الحق والمكابرة عليه وأنت إنما تمسكت بالأمارة علينا وإنما قاتل دونك هؤلاء بهذه التسمية فلو نزعتها انصرفوا. فسكت عثمان ولزم الدار وأقسم على الناس بالانصراف فانصرفوا إلا الحسن بن علي ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وكانت مدة الحصار أربعين يوماً. ولثمان عشرة منها وصل الخبر بمسير الجنود جمن الأمصار فاشتد الحصار ومنعوه من لقاء الناس ومن الماء. وأرسل إلى علي وطلحة والزبير وأمهات المؤمنين يطلب الماء. فركب علي إليهم مغلساً وقال: يا أيها الناس إن هذا لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين! وإن الأسير عند فارس والروم يطعم ويسقى. فقالوا لا والله ونعمة عين فرجع وجاءت أم حبيبة على بغلتها مشتملةً على أداوةٍ وقالت: أردت أن أسأل هذا الرجل عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم فقالوا: لا والله وضربوا وجه البغلة فنفرت وكادت تسقط عنها وذهب بها الناس إلى بيتها. وأشرف عليهم عثمان وقرر حقوقه وسوابقه. فقال بعضهم: مهلاً عن أمير المؤمنين. فجاء الأشتر وفرق الناس وقال: لا يمكر بكم. ثم خرجت عائشة إلى الحج ودعت أخاها فأبى فقال له حنظلة الكاتب: تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع سفهاء العرب فيما لا يحل. ولو قد صار الأمر إلى الغلبة غلبك عليه بنو عبد مناف. ثم ذهب حنظلة إلى الكوفة وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم. وكان آل حزم يدسون الماء إلى بيت عثمان في الغفلات وكان ابن عباس ممن لزم باب عثمان للمدافعة فأشرف عليه عثمان وأمره أن يحج بالناس فقال: جهاد هؤلاء أحب إلي فأقسم عليه وانطلق. ولما رأى أهل مصر أن أهل الموسم يريدون قصدهم وأن أهل الأمصار يسيرون إليهم اعتزموا على قتل عثمان رضي الله عنه وتقبل شهادتهم يرجون في ذلك خلاصهم واشتغال الناس عنهم فقاموا إلى الباب ليفتحوه فمنعهم الحسن بن علي وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصحابة وقاتلوهم وغلبوهم دون الباب. ثم صدهم عثمان في القتال وحلف ليدخلن فدخلوا وأغلق الباب فجاءوا بالنار وأحرقوه ودخلوا وعثمان يصلي وقد افتتح سورة طه. وقد سار أهل الدار فما شغله شيء من أمرهم حتى فرغ وجلس إلى المصحف يقرأ فقرأ: "
لما قتل عثمان اجتمع طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار وأتوا علياً يبايعونه فأبى وقال: أكون وزيراً لكم خير من أن أكون أميراً ومن اخترتم رضيته فألحوا عليه وقالوا له: لا نعلم أحق منك ولا نختار غيرك حتى غلبوه في ذلك فخرج إلى المسجد وبايعوه. وأول من بايعه طلحة ثم الزبير بعد أن خيرهما - ويقال إنهما ادعيا الإكراه بعد ذلك بأربعة أشهر وخرجا إلى مكة - ثم بايعه الناس وجاءوا بابن عمر فقال كذلك. فقال ائتني بكفيل قال لا أجده فقال الأشتر دعني أقتله فقال علي دعوه أنا كفيله. وبايعت الأنصار وتأخر منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد الخدري ومحمد بن مسلمة والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت ورافع بن خديج وفصالة بن عبيد وكعب بن عجرة وسلمة بن سلامة بن وخش. وتأخر من المهاجرين عبد الله بن سلام وصهيب بن سنان وأسامة بن زي وقدامة بن مظعون والمغيرة بن شعبة. وأما النعمان بن بشير فأخذ أصابع نائلة امرأة عثمان وقميصه الذي قتل فيه ولحق بالشام صريخاً. وقيل إن عثمان لما قتل بقي الغافقي بن حرب أميراً على المدينة خمسة أيام والتمس من يقوم بالأمر فلم يحبه أحد وأتوا إلى علي فامتنع وأتى الكوفيون الزبير والبصريون طلحة فامتنعا. ثم بعثوا إلى سعد وابن عمر فامتنعا فبقوا حيارى ورأوا أن رجوعهم إلى الأمصار بغير إمام يوقع في الخلاف والفساد فجمعوا أهل المدينة وقالوا: انتم أهل الشورى وحكمكم جائز على الأمة فاعقدوا الإمام ونحن لكم تبع وقد أجلناكم يومين وإن لم تفعلوا قتلنا فلانا وفلانا وغيرهم يشيرون إلى الأكابر. فجاء الناس إلى علي فاعتذر وامتنع فخوفوه الله في مراقبة الإسلام فوعدهم إلى الغد. ثم جاءوه من الغد. وجاء حكيم بن جبلة في البصريين فأحضر الزبير كرهاً وجاء الأشتر في الكوفيين فأحضر طلحة كذلك وبايعوا لعلي وخرج إلى المسجد وقال: هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أردتم وقد افترقنا أمس وأنا كاره فأبيتم إلا أن أكون عليكم فقالوا نحن على ما افترقنا لك عليه بالأمس فقال لهم: اللهم اشهد! ثم جاءوا بقوم ممن تخلف قالوا نبايع على إقامة كتاب الله. ثم بايع العامة وخطب علي وذكر الناس وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة ورجع إلى بيته فجاءه طلحة والزبير وقالا: قد اشترطنا إقامة الحدود فلتقمها على قتلة هذا الرجل فقال: لا قدرة لي على شيء مما تريدوه حتى يهدأ الناس وتستقر الأمور فتؤخذ الحقوق. فافترقوا عنه وأكثر بعضهم المقالة في قتلة عثمان وباستناده إلى أربعة في رأيه. وبلغه ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم. ثم هرب مروان وبنو أمية ولحقوا بالشام فاشتد على علي منع قريش من الخروج. ثم نادى في اليوم الثالث برجوع الأعراب إلى بلادهم فأبوا وتذامرت معهم السبئية وجاءه طلحة والزبير فقالا: دعنا نأت البصرة والكوفة فنستنفر الناس فأمهلهما. وجاء المغيرة فأشار عليه باستبقاء العمال حتى يستقر الأمر ويستبدلوا بمن شاء فأمهله. ورجع من الغد فأشار بمعاجلة الاستبدال. وجاءه ابن عباس فأخبره بخبر المغيرة فقال: نصحك أمس وغشك اليوم. قال: فما الرأي. قال: كان الرأي أن تخرج عند قتل الرجل أو قبل ذلك إلى مكة وأما اليوم فإن بني أمية يشبون على الناس بأن يلجموك طرفاً من هذا الأمر ويطلبون ما طلب أهل المدينة في قتلة عثمان فلا يقدرون عليهم والرأي أن تقر معاوية. فقال علي رضي الله عنه والله لا أعطيه إلا السيف. فقال له ابن عباس: أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب. أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحرب خدعة: قال بلى! فقال ابن عباس: أما والله إن أطعتني لأتركنهم ينظرون في دبر الأمور ولا يعرفون ما كان وجهي من غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال يا ابن عباس: لست من هنياتك ولا هنيات معاوية في شيء. فقال ابن عباس: أطعني والحق بمالك بينبع وأغلق بابك عليك فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك. وإن نهضت مع هؤلاء اليوم يحملك الناس دم عثمان غداً. فأبى علي وفال أشر علي وإذا خالفتك أطعني. قال: أيسر ما لك عندي الطاعة. قال: فسر إلى الشام فقد وليتكها. قال إذاً يقتلني معاوية بعثمان أو يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك ولكن أكتب إليه وعده فأبى. وكان المغيرة يقول: نصحته فلم يقبل فغضب ولحق بمكة. ثم فرق علي العمال على الأمصار فبعث على البصرة عثمان بن حنيف وعلى الكوفة عمارة بن شهاب من المهاجرين وعلى اليمن عبد الله بن عباس وعلى مصر قيس بن سعد وعلى الشام سهل بن حنيف. فمضى عثمان إلى البصرة فدخلها واختلفوا عليه فأطاعته فرقة وقال آخرون: ننظر ما يصنع أهل المدينة فنقتدي بهم. ومضى عمارة إلى الكوفة فلما بلغ زبالة لقي طليحة بن خويلد فقال له: إرجع فإن القوم لا يستبدلون بأبي موسى وإلا ضربت عنقك. ومضى ابن عباس إلى اليمن فجمع يعلى بن منية مال الجباية وخرج به إلى مكة ودخل عبد الله إلى اليمن ومضى قيس بن سعد إلى مصر ولقيه بأيلة خيالة من أهل مصر فقالوا: من أنت قال قيس بن سعد من فل عثمان أطلب من آوي إليه وانتصر به. ومضى حتى دخل وأظهر أمره فافترقوا عليه فرقة كانت معه وأخرى تربصوا حتى يروا فعله في قتلة عثمان. ومضى سهل بن حنيف إلى الشام حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقال لهم: أنا أمير على الشام قالوا إن كان بعثك غير عثمان فارجع فرجع. فلما رجع وجاءت أخبار الآخرين دعا علي طلحة الزبير وقال: قد وقع ما كنت أحذركم فسألوه الإذن في الخروج من المدينة وكتب علي إلى أبي موسى مع معبد الأسلمي فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم ومن الكاره منهم والراضي حتى كأنه يشاهد. وكتب إلى معاوية مع سبرة الجهني فلم يجبه إلى ثلاثة أشهر من مقتل عثمان. ثم دعا قبيصة من عبس وأعطاه كتاباً مختوماً عنوانه: من معاوية إلى علي وأوصاه بما يقول وأعاده مع رسول علي. فقدم في ربيع الأول ودخل العبسي وقد رفع الطومار كما أمره حتى دفعه إلى علي ففضه فلم يجد فيه كتاباً. فقال للرسول: ما وراءك قال آمن أنا. قال نعم قال تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود قال وممن قال منك. وتركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان منصوباً على منبر دمشق. فقال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! قد نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله. ثم رده إلى صاحبه وصاحت السبئية: اقتلوا هذا الكلب وافد الكلاب. فنادى يا لمضر يا لقيس أحلف بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي فانظروا كم الفحول والركاب وتقاووا عليه فمنعته مضر ودس أهل المدينة على علي من يأتيهم برأيه في القتال وهو زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعاً إليه فجالسه ساعة فقال له علي: سيروا لغزو الشام. فقال لعلي الأناة والرفق أمثل فتمثل يقول: متى تجمع القلب الذكي وصارماً وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم فعلم أن رأيه القتال ثم جاء إلى القوم الذين دسوه فأخبرهم ثم استأذنه طلحة والزبير في العمرة ولحقا بمكة. ثم اعتزم على الخروج إلى الشام ودعا أهل المدينة إلى قتالهم وقال: انطلقوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم. وأمر الناس بالتجهز إلى الشام ورفع اللواء لمحمد بن الحنفية وولى عبد الله بن عباس ميمنته وعمرو بن أبي سلمة ميسرته ويقال بل عمرو بن سفيان بن عبد الأسد وولى أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخي عبيدة مقدمته ولم يول أحداً ممن خرج على عثمان. واستخلف على المدينة تمام بن العباس وعلى مكة قثم بن العباس. وكتب إلى قيس بن سعد بمصر وعثمان بن حنيف بالبصرة وأبي موسى بالكوفة أن يندبوا الناس إلى الشام وبينما هو على التجهيز للشام إذ أتاه الخبر عن أهل مكة بنحو آخر وأنهم على الخلاف فانتفض عن الشام.
ولما جاء خبر مكة إلى علي قام في الناس وقال: ألا إن طلحة والزبير وعائشة قد تمالأوا على ناقض إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا وأقتصد نحوهم. وندب أهل المدينة فتثاقلوا وبعث كميلاً النخعي فجاءه بعبد الله بن عمر فقال: إنهض معي! فقال أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. قال: فاعطني كفيلا بأنك لا تخرج قال ولا هذه فتركه ورجع إلى المدينة. وخرج إلى مكة وقد أخبر أخته أم كلثوم بما سمع من أهل المدينة في تثاقلهم وأنه على طاعة علي ويخرج معتمراً وجاء الخبر من الغداة إلى علي بأنه خرج إلى الشام فبعث في أثره على كل طريق وماج أهل المدينة وركبت أم كلثوم إلى أبيها وهو في السوق يبعث الرجال ويظاهر في طلبه فحدثته فانصرف عن ذلك. ووثق فيما قاله ورجع إلى أهل المدينة فخاطبهم وحرضهم فرجعوا إلى إجابته. وأول من أجابه أبو الهيثم بن التيهان البدري وخزيمة بن ثابت وليس بذي الشهادتين. ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس عن علي انتدب إليه وقال: من مثاقل عنك فإنا نخف معك ونقاتل دونك. وكان سبب إجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إلى مكة وعثمان محصور كما قدمناه فقضت نسكها وانقلبت تريد المدينة فلقيت في طريقها رجلاً من بني ليث أخوالها فأخبرها بقتل عثمان وبيعة علي فقالت: قتل عثمان والله ظلماً ولأطلبن بدمه فقال لها الرجل ولم أنت كنت تقولين ما قلت فقالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه وانصرفت إلى مكة. وجاءها الناس فقالت: إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلماً ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه وقد استعمل أمثالهم من كان قباله ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذراً بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام. والله لأصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم ولو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنباً لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه. فقال عبد لله بن عامر الحضرمي وكان عامل مكة لعثمان: أنا أول طالب فكان أول مجيب وتبعه بنو أميه وكانوا هربوا إلى مكة بعد قتل عثمان: منهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة. وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير ويعلى بن منية من اليمن بستمائة بعير وستمائة ألف فأناخ بالأبطح. ثم قدم طلحة والزبير من المدينة فقالت لهما عائشة: ما وراءكما. قالا تحملنا هراباً من المدينة من غوغاء وأعراب غلبون على خيارهم فلم يمنعوا أنفسهم ولا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلأ. فقالت: انهضوا بنا إليهم وقال آخرون: نأتي الشام. فقال ابن عامر: إن معاوية كفاكم الشام فأتوا البصرة فلي بها صنائع ولهم في طلحة هوى فنكروا عليه مجيئه من البصرة واستقام رأيهم على رأيه وقالوا إن الذين معنا لا يطيقون من بالمدينة ويحتجون ببيعة علي وإذا أتينا البصرة أنهضناهم كما أنهضنا أهل مكة وجاهدنا فاتفقوا ودعوا عبد الرحمن بن عمر إلى النهوض فأبى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. وكانت أمهات المؤمنين معها على قصد المدينة. فلما نهضت إلى البصرة قعدوا عنها وأجابتها حفصة فمنعها أخوها عبد الله. وجهزهم ابن عامر بما معه من المال ويعلى بن منية بما معه من المال والظهر. ونادوا في الناس بالحملان فحملوا على ستمائة بعير وساروا في ألف من أهل مكة ومن أهل المدينة. وتلاحق بهم الناس فكانوا ثلاثة آلاف وبعثت أم الفضل أم عبد الله بن عباس بالخبر استأجرت على كتابها من أبلغه علياً ونهضت عائشة ومن معها وجاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير فقال على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة فقال ابن الزبير: على أبي وقال ابن طلحة: على أبي فأرسلت عائشة إلى مروان تقول له: أتريد أن تفرق أمرنا ليصل بالناس ابن أختي تعني عبد الله بن الزبير. وودع أمهات المؤمنين عائشة من ذات عرق باكيات وأشار سعيد بن العاص على مروان بن الحكم وأصحابه بإدراك ثأرهم من عائشة وطلحة والزبير. فقالوا: نسير لعلنا نقتل قتلة عثمان جميعأ. ثم جاء إلى طلحة والزبير فقال لمن تجعلان الأمر إن ظفرتما. قالا: لأحدنا الذي تختاره الناس. فقال: بل اجعلوه لولد عثمان لأنكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا: وكيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم قال: فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد ووافقه للمغيرة بن شعبة ومن معه من ثقيف. فرجعوا ومضى القوم ومعهم أبان والوليد إبنا عثمان. وأركب يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بمئة دينار وقيل بثمانين وقيل بل كان لرجل من عرينة عرض لهم بالطريق على جمل فاستبدلوا به جمل عائشة على أن حمله بألف فزادوه أربعمائة درهم وسألوه عن دلالة الطريق فدلهم ومر فقالت عائشة: ردوني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب. ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وأقامت بهم يوماً وليلة إلى أن قيل النجاء! النجاء! قد أدرككم علي فارتحلوا نحو البصرة. فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي وأشار بأن يتقدم عبد الله بن عامر إليهم فأرسلته عائشة وكتبت معه إلى رجال من البصرة: إلى الأحنف بن قيس وسمرة وأمثالهم وأقامت بالحفيين تنتظر الجواب. ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجلاً عامة وأبا الأسود الدؤلي وكان رجلاً خاصة وقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها فجاءاها بالحفير وقالا: إن أميرنا بعثنا نسألك عن مسيرك فقالت: إن الغوغاء ونزاع القبائل فعلوا ما فعلوا. فخرجت في المسلمين أعلمهم بذلك وبالذي فيه الناس وراءنا وما ينبغي من إصلاح هذا الأمر. ثم قرأت: "
لما قتل حذيفة بن عتبة يوم اليمامة ترك ابنه محمداً في كفالة عثمان وأحسن تربيته وسكر في بعض الأيام فجلده عثمان ثم تنسك وأقبل على العبادة وطلب الولاية من عثمان فقال: لست لها بأهل فاستأذنه على اللحاق بمصر لغزو البحر فأذن له وجهزه ولزمه الناس وعظموه لما رأوا من عبادته. ثم غزا مع ابن أبي سرح غزوة الصواري كما مر فكان يتعرض له بالقدح فيه وفي عثمان وبتوليته ويجتمع في ذلك مع محمد بن أبي كر وشكاهما ابن أبي سرح إلى عثمان فكتب إليه بالتجافي عنهما لوسيلة ذاك بعائشة وهذا لتربيته. وبعث إلى ابن أبي حذيفة ثلاثين ألف درهم وحمل من الكسوة فوضعهما ابن أبي حذيفة في المسجد وقال: يا معشر المسلمين كيف أخادع عن ديني وآخذ الرشوة طيه فازداد أهل مصر تعظيماً له وطعنا على عثمان وبايعوه على رياستهم وكتب إليه ضمان يذكره بحقوقه عليه فلم يرده ذلك. وما زال يحرض الناس عليه حتى خرجوا لحصاره وأقام هو بمصر وخرج ابن أبي سرح إلى عثمان فاستولى هو على مصر وضبطها إلى أن قتل عثمان وبويع علي وبايع عمرو بن العاص لمعاوية وسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد فمنعهما فخدع محمد حتى خرج إلى العريش فتحصن بها في ألف رجل فحاصره حتى نزل علي حكمهم فقتلوه. وفي هذا الخبر بعض الوهن لأن الصحيح أن عمراً ملك مصر بعد صفين وقيس ولاه علي لأول بيعته وقد قيل: إن ابن أبي حذيفة لما حوصر عثمان بالمدينة أخرج هو ابن أبي سرح عن مصر وضبطها وأقام ابن أبي سرح بفلسطين حتى جاء الخبر بقتل عثمان وبيعة علي وتوليته قيس بن سعد على مصر. فأقام بمعاوية. وقيل أن عمراً سار إلى مصر بعد صفين فبرز إليه ابن أبي حذيفة في العساكر وخادعه في الرجوع إلى بيعة علي وإن يجتمعا لذلك بالعريش في غير جيش من الجنود. ورجع إلى معاوية عمرو فأخبره ثم جاء إلى ميعاده بالعريش وقد استعد بالجنود وأكمنهم خلفه حتى إذا التقيا طلعوا على أثره فتبين ابن أبي حذيفة الغدر فتحصن بقصر العريش إلى أن نزل على حكم عمرو. وبعث به إلى معاوية فحبسه إلى أن فر من محبسه فقتل. وقيل إنما بعثه عمرو إلى معاوية عند مقتل محمد بن أبي بكر وإنه أمنه ثم حمله إلى معاوية فحبسه بفلسطين.
كان علي قد بعث إلى مصر لأول بيعته قيس بن سعد أميراً في صفر من سنة ست وثلاثين وأذن له في الإكثار من الجنود وأوصاه وقال له: لو كنت لا أدخلها إلا بجند آتي بهم من المدينة فلا أدخلها أبداً فأنا أدعو لك الجند تبعثهم في وجوهك. وخرج في سبعة من أصحابه حتى أتى مصر وقرأ عليهم كتاب علي بمبايعته وطاعته وإنه أميرهم. ثم خطب فقال بعد حمد الله: أيها الناس قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله فبايعه الناس واستقامت مصر وبعث عليها عماله إلا بعض القرى كان فيها قوم يدعون إلى الطلب بدم عثمان: وخشي معاوية أن يسير إليه علي في أهل العراق وقيس من ورائه في أهل مصر فكتب إليه يعظم قتل عثمان ويطوقه علياً ويحضه على البراءة من ذلك ومتابعته على أمره على أن يوليه العراقين إذا ظفر ولا يعزله. يولي من أراد من أهله الحجاز كذلك ويعطيه ما شاء من الأموال. فنظر في أهله بين موافقته أو معاجلته بالحرب فآثر الموافقة فكتب إليه: أما بعد فإني لم أقارف شيئاً مما ذكرته وما اطلعت لصاحبي على شيء منه. وأما متابعتك فانظر فيها وليس هذا مما يسرع إليه وأنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه حتى نرى وترى. فكتب إليه معاوية: إني لم أرك تدنو فأعدك سلمأ ولا تتباعد فأعدك حرباً وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعي عدد الرجال وأعنة الخيل والسلام. فعلم قيس أن المدافعة لا تنفع معه فأظهر له ما في نفسه وكتب إليه بالرد القبيح والشتم والتصريح بفضل علي والوعيد. فحينئذ أيس معاوية منه وكاده من قبل علي فأشاع في الناس أن قيساً شيعة له تأتينا كتبه ورسله ونصائحه وقد ترون ما فعل بإخوانكم القائمين بثأر عثمان وهو يجري عليهم من الأعطية والأرزاق. فأبلغ ذلك إلى علي محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر وعيونه بالشام فأعظم ذلك وفاوض فيه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر. فقال له عبد الله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك واعزله عن مصر. ثم جاء كتابه بالكف عن قتال المعتزلين فقال ابن جعفر: مره بقتالهم خشية أن تكون هذه ممالأة فكتب إليه يأمره بذلك فلم ير قيس ذلك رأياً وقال: متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوك وهم الآن معتزلون والرأي تركهم. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين! إبعث محمد بن أبي بكر على مصر وكان أخاه لأمه واعزل قيساً فبعثه وقيل بعث قبله الأشتر النخعي ومات بالطريق فبعث محمداً. ولما قدم محمد على قيس خرج عنها مغضباً إلى المدينة وكان عليها مروان بن الحكم فأخافه فخرج هو وسهل بن حنيف إلى علي. وكتب معاوية إلى مروان يعاتبه لو امددت علياً بمئة ألف مقاتل كان أيسر علي من قيس بن سعد. ولما قدم قيس على علي وكشف له عن وجه الخبر قبل عذره وأطاعه في أمره كله. وقدم محمد مصر فقرأ كتاب علي على الناس وخطبهم. ثم بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم ادخلوا في طاعتنا أو اخرجوا عن بلادنا فقالوا: دعنا حتى ننظر! وأخذوا حذرهم ولما انقضت صفين وصار الأمر إلى التحكيم بارزوه وبعث العساكر إلى يزيد بن الحرث الكناني بخربتا وعليهم الحرث بن جمهان فقتلوه ثم بعث آخر فقتلوه.
لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص إلى فلسطين ومعه ابناه عبد الله ومحمد فسكن بها هارباً مما توقعه من قتل عثمان إلى أن بلغه الخبر بقتله فارتحل يبكي ويقول كما تقول النساء حتى أتى دمشق فبلغه بيعة علي فاشتد عليه الأمر وأقام ينتظر ما يصنعه الناس. ثم بلغه مسير عائشة وطلحة والزبير فأمل فرجاً من أمره ثم جاءه الخبر بوقعة الجمل فارتاب في أمره وسمع أن معاوية بالشام لا يبايع علياً وأنه يعظم قتل عثمان فاستشار بنيه في المسير إليه. فقال له ابنه عبد لله: توفي النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان بعده وهم راضون عنك فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب وكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صيت فقال يا عبد الله! أمرتني بما هو خير لي في ديني ويا محمد! أمرتني بما هو خير لي في دنياي وشر لي في آخرتي. ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية فوجدوهم يطلبون دم عثمان فقال: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم فأعرض معاوية قليلاً ثم رجع إليه وشركه في سلطانه. أمر صفين لما رجع علي بعد وقعة الجمل إلى الكوفة مجمعاً على قصد الشام بعث إلى جرير بن عبد الله البجلي بهمدان وإلى الأشعث بن قيس بأذربيجان وهما من عيال عثمان لأن يأخذا له البيعة ويحضرا عنده فلما حضرا بعث جرير إلى معاوية يعلمه ببيعته ونكث طلحة والزبير وحزبهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس. فلما قدم عليه طاوله في الجواب وحمل أهل الشام ليرى جرير قيامهم في دم عثمان واتهامهم علياً به. وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ملوثاً بالدم كما قدمناه وبأصابع زوجته نائلة وضع معاوية القميص على المنبر والأصابع من فوقه. فمكث الناس يبكون مدة وأقسموا أن لا يمسهم ماء الجنابه ولا يناموا على فراش حتى يثأروا من عثمان ومن حال دون ذلك قتلوه. فرجع جرير بذلك إلى علي وعذله الأشتر فبعث جرير وإنه طال مقامه حتى تمكن أهل الشام من رأيهم. فغضب لذلك جرير ولحق بقرقيسيا واستقدمه معاوية فقدم عليه. وقيل إن شرحبيل بن الصمت الكندي أشار على معاوية برد جرير لمنافسة كانت بينهما منذ أيام عمر. وذلك أن شرحبيل كان عمر بن الخطاب بعثه إلى سعد بالعراق ليكون معه فقربه سعد وقدمه ونافسه له أشعث بن قيس. فأوصى جريراً عند وفادته على عمر أن ينال من شرحبيل عنده ففعل فبعث عمر شرحبيل إلى الشام فكان يحقد ذلك على جرير. فلما جاء إلى معاوية أغراه شرحبيل به وحمله على الطلب بدم عثمان. ثم خرج علي وعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري وقدم عليه عبد الله بن عباس في أهل البصرة. وتجهز معاوية وأغراه عمرو بقلة عسكر علي واضطغان أهل البصرة له بمن قتل منهم. وعبى معاوية أهل الشام وعقد لعمرو ولابنيه وغلامه وردان الأولوية. وبعث علي في مقدمته زياد بن النضر الحارثي في ثمانية آلاف وشريح بن هانىء في أربعة آلاف. وسار من النخيلة إلى المدائن واستنفر من كان بها من المقاتلة وبعث منها معقل بن قيس في ثلاثة آلاف يسير من الموصل ويوافيه بالرقة. وولى علي على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد وسار فلما وصل إلى الرقة نصب له جسر فعبر وجاء زياد وشريح من ورائه وكانا سمعا بمسير معاوية وخشيا أن يلقاهما معاوية وبينهما وبين علي البحر ورجعا إلى هيت وعبرا الفرات ولحقا بعلي فقدمهما أمامه. فلما أتيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فطاولاه وبعثا إلى علي فسرح الأشتر وأمره أن يجعلهما على مجنبتيه وقال: لا تقاتلهم حتى آتيك! وكتب إلى شريح وزياد بطاعته فقدم عليهما وكف عن القتال سائر يومه حتى حمل عليهم أبو الأعور بالعشي فاقتتلوا ساعة وافترقوا ثم خرج من الغداة ثم وخرج إليه في أصحاب الأشتر هاشم بن عتبة المرقال واقتتلوا عامة يومهم. وبعث الأشتر سنان بن مالك النخعي إلى أبي الأعور السلمي فتقدم الأشتر وانتهى إلى معاوية ولحق به علي وكان معاوية قد ملك شريعة الفرات فشكا الناس إلى علي العطش فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية بأنا سرنا ونحن عازمون على الكف عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال. ونحن رأينا الكف حتى ندعوكم ونحتج عليك وقد منعتم الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك يخلون عن الماء للورد حتى ننظر بيننا وبينكم وإذا أردت القتال حتى يضرب الغالب فعلنا. فأشار عمرو بن العاص بتخلية الماء لهم وأشار ابن أبي سرح والوليد بن عقبة بمنعهم الماء وعرضا بشتم فتشاتم معهم صعصعة ورجع وأوعز إلى أبي الأعور بمنعهم الماء. وجاء الأشعث بن قيس إلى الماء فقاتلهم عليه. ثم أمر معاوية أبا الأعور يزيد بن أبي أسد القسري جد خالد بن عبد الله ثم بعمرو بن العاص بعده. وأمر علي الأشعث بشبث بن ربعي ثم بالأشتر وعليهم أصحاب علي وملكوا الماء عليهم وأرادوا منعهم منه فنهاهم علي عن ذلك وأقام يومين. ثم بعث إلى معاوية أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي يدعونه إلى الطاعة وذلك أول ذي الحجة سنة ست وثلاثين فدخلوا عليه. وتكلم بشير بن عمرو بعد حمد الله والثناء عليه والموعظة الحسنة وناشده الله أن لا يفرق الجماعة ولا يسفك الدماء فقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك. فقال بشير: ليس مثلك هو أحق بالأمر بالسابقة والقرابة. قال فما رأيك قال تجيبه إلى ما دعا إليه من الحق. قال معاوية: ونترك دم عثمان لا والله لا أفعله أبداً! ثم قال شبث بن ربعي: يا معاوية! إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء الطغام إلى طاعتك ولقد علمنا أنك أبطأت على عثمان بالنصر لطلب هذه المنزلة فاتق الله ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله. فأجابه معاوية وأبدع في سبه وقال: إنصرفوا فليس بيني وبينكم إلا السيف. فقال له شبث: أقسم بالله لنجعلنها لك. ورجعوا إلى علي بالخبر وأقاموا يقتتلون أيام ذي الحجة كلها عسكر من هؤلاء وعسكر من هؤلاء وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام حذراً من الاستئصال والهلاك. ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعاً في الصلح وبعث إلى معاوية عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن حفصة. فتكلم عدي بعد الحمد والثناء ودعا إلى الدخول في طاعة علي ليجمع الله به الكلمة فلم يبق غيرك ومن معك واحذر يا معاوية أن يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل. فقال معاوية: كأنك جئت مهدداً لا مصلحاً هيهات يا عدي أنا ابن حرب! والله ما يقعقع لي بالشنان وإنك من قتلة عثمان وأرجو أن يقتلك الله به. فقال له يزيد بن قيس: إنما أتيناك رسلاً ولا ندع مع ذلك النصح والسعي في الإلفة فقال معاوية: بعد الحمد والثناء أما الجماعة التي تدعون إليها فهي معنا وأما طاعة صاحبكم فلا نراها لأنه قتل خليفتنا وآوى أهل ثأرنا. ونحن مع ذلك نجيبكم إلى الطاعة والجماعة إذا دفع إلينا قتلة عثمان. فقل شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن تقتل عماراً قال نعم بمولاه! قال شبث حتى تضيق والله الأرض الفضاء عليك. فقال معاوية لو كان ذلك لكانت عليك أضيق. وافترقوا عن معاوية ثم خلا بزياد بن حفصة وشكا إليه من علي وسأله النصر فيه بعشيرته وأن يوليه أحد المصرين فأبى وقال: إني على بينة من ربي فلن أكون ظهيراً للمجرمين. وقام عنه فقال معاوية لعمرو كأن قلوبهم قلب رجل واحد. ثم بعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه. فتكلم حبيب بعد الحمد لله والثناء فقال: إن عثمان كان خليفة مهدياً يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته واستبطأتم موته فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن كنت لم تقتله ثم اعتزل أمر الناس فيولوا من أجمعوا عليه. فقال علي: ما أنت وهذا الأمر فاسكت فلست بأهل له! فقال والله لتراني بحيث تكره فقال: وما أنت لا أبقى الله عليك إن أبقيت وأذهب فصوب وصعد. ثم تكلم بعد الحمد لله والثناء وهداية الناس لمحمد صلى الله عليه وسلم وخلافة الشيخين وحسن سيرتهما وقد وجدنا عليهما أن توليا ونحن أترب منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن سامحناهما بذلك. وولي عثمان فعاب الناس عليه وقتلوه ثم بايعوني مخافة الفرقة فأجبتهم. ونكث علي رجلان وخالف صاحبكم الذي ليس له مثل سابقتي والعجب من انقيادكم له دون بيت نبيكم ولا ينبغي لكم ذلك. وأنا أدعوكم إلى الكتاب والسنة ومعالم الدين وإماتة الباطل وإحياء الحق فقالوا: نشهد أن عثمان قتل مظلوماً. فقال: لا أقول مظلوماً ولا ظالماً. قالوا: فمن لم يقل ذلك فنحن منه براء وانصرفوا. فقرأ علي: "
|